عضو جديد تسجيل دخول
 حق المسلم على المسلم عظيم قد بينه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((حق المسلم على المسلم ست))، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمته-وفي رواية: فشمته - وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه)).
6597
8 + 1 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.
1- قال تعالى:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)،(الأحقاف:35).
2- وقال تعالى:( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ) (النحل:127).
3- وقال تعالى:( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) (طه:130).
4- وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: دخلنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أبي سيف القين (الحداد) وكان ظئراً (زوج المرضع) لإبراهيم عليه السّلام، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إبراهيم فقبّله وشمّه، ثمّ دخلنا عليه بعد ذلك - وإبراهيم يجود بنفسه - فجعلت عينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تذرفان، فقال له عبد الرّحمن بن عوف رضي اللّه عنه: وأنت يا رسول اللّه؟ فقال: ((يا ابن عوف إنّها رحمة)) ثمّ أتّبعها بأخرى، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: ((إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) رواه البخاري (1241) واللفظ له، ومسلم (2315).
5- وعن أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال: أرسلت ابنة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إليه: إنّ ابنا لي قبض، فأتنا، فأرسل يقرأ السّلام، ويقول: ((إنّ للّه ما أخذ، وله ما أعطى، وكلّ عنده بأجل مسمّى، فلتصبر ولتحتسب)) فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال، فرفع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الصّبيّ ونفسه تتقعقع (تحرك وتضطرب) - قال حسبته أنّه قال: كأنّها شنّ (القربة) - ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول اللّه: ما هذا؟ فقال: ((هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده، وإنّما يرحم اللّه من عباده الرّحماء)) رواه البخاري (1224) واللفظ له، ومسلم (923).
6- وفي حديث بدء الوحي: عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت ... فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: ((زملوني زملوني)) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة: "كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" (رواه البخاري (3)، ومسلم (160).
7- وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب؛ فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين))، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) رواه البخاري (3059) ومسلم (1795).
8- وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه، ويقول ((كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله)) فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ(آل عمران:128) رواه مسلم (1791).
9- وعن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه؛ فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ (غافر:28) رواه البخاري (3643).
10- وعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: ((كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري (3416).
11- وعن عروة عن عائشة أنها قالت لعروة: "ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه" رواه البخاري (6094).
12- وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال))[1].
13- وعن أنس بن مالك قال: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته (أدخلته) تحت يدي ولاثتني ببعضه (أي لفتني به والمراد به: لفت بعضه على رأسه وبعضه على إبطه) ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومعه الناس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آرسلك أبو طلحة؟)) فقلت: نعم، قال: ((بطعام؟)) فقلت نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: ((قوموا)) فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلمي يا أم سليم ما عندك)) (طلب ما عندهما) فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت أم سليم عكة (إناء من جلد مستدير يجعل فيه السمن غالباً والعسل) فأدمته (جعلت فيه إداماً) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون، أو ثمانون رجلا" رواه البخاري (3630) ومسلم (2040).
14- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناساً في القسمة؛ فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناساً من أشراف العرب؛ فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته، فقال: ((فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) رواه البخاري (2981) ومسلم (1062).

وعن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشي نسأله عن قتله حمزة؟ قلت: نعم، وكان وحشي يسكن حمص، فسألنا عنه فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره، كأنه حميت (وعاء من جلد، لا شعر عليه؛ يجعل فيه السمن)، قال: فجئنا حتى وقفنا عليه يسيراً فسلمنا، فردَّ السلام، قال عبيد الله معتجر (لف العمامة على الرأس، ورد طرفها على الوجه) بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه، فقال عبيد الله: يا وحشي أتعرفني؟ قال: فنظر إليه ثم قال: لا والله إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها أم قتال بنت أبي العيص، فولدت له غلاما بمكة، فكنت أسترضع له، فحملت ذلك الغلام مع أمه، فناولتها إياه؛ فلكأني نظرت إلى قدميك، قال: فكشف عبيد الله عن وجهه ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، قال: فلما أن خرج الناس عام عينين - وعينين جبل بحيال أحد بينه وبينه واد - خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع، فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار، مقطعة البظور؛ أتحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم شدَّ عليه فكان كأمس الذاهب (كناية عن قتله في الحال، وإعدامه له)، قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته (عانته، وقيل ما بين السرة والعانة) حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذاك العهد به، فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل (لا يصيبهم بأذى، ولا ينالهم منه إزعاج)، قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني قال: ((آنت وحشي!))، قلت: نعم، قال: ((أنت قتلت حمزة))، قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: ((فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني))، قال: فخرجت، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار (خلل وتصدع فيه) كأنه جمل أورق (لونه مثل الرماد من غبار الحرب)، ثائر الرأس (شعر رأسه منتشر)، قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته"رواه البخاري(3844).


[1] رواه الترمذي (2472) وابن ماجه برقم (151)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3281).

 

الحديث عن صبره عليه الصلاة والسلام هو حديث في الحقيقة عن حياته كلها، وعن سيرته بجميع تفاصيلها وأحداثها، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها صبر ومصابرة، وجهاد ومجاهدة من صباه وطفولته إلى حين لحاقه بالرفيق الأعلى.
 
فلقد كان الصبر حليفه وصاحبه، وشعاره ودثاره حتى أصبح صلى الله عليه وسلم مضرب المثل في عظيم الصبر، وثبات القلب، وسعة الصدر؛ وكان بحق إمام الصابرين، ومن يقرأ في صبره صلى الله عليه وسلم، ويتأمل في ذلك؛ يصاب بالذهول وهو يقرأ تلك الأمثلة التي لم ولن نجد لها في التاريخ مثيلاً.
 
فلقد عاش صلى الله عليه وسلم منذ صغره يتيماً؛ لا أب يحميه، ولا أم ترعاه، ومع ذلك صبر.
يموت ستة من أولاده في حياته صلى الله عليه وسلم فيصبر ويحتسب، ويقول يوم موت ولده إبراهيم قولته المشهورة: ((إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)).
 
يموت ابن لإحدى بناته فترسل إليه رسولاً تطلب منه الزيارة، والمجيء إلى بيتها؛ فيعتذر عن المجيء أولاً، ويقرؤها السلام، ويحثها على الصبر فيقول: ((إنّ للّه ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجل مسمّى، فلتصبر ولتحتسب))، فلما أرسلت إليه مرة ثانية تقسم عليه أن يأتيها؛ لبى طلبها، وأتى إلى بيتها.
 
يفقد صلى الله عليه وسلم نصيره الحامي له من أذى الكفار عمه أبا طالب، حتى ينال منه الكفار بعد ذلك ما ينالون، فيصبر، وتموت زوجته خديجة رضي الله عنها سنده ونصيره ومعينه الداخلي، من كانت تهدئ من روعه، وتثبته، وتؤانسه، فيصبر عليه الصلاة والسلام على كل ما لاقاه في حياته من منغصات ومكدرات.

فيا أصحاب المصائب والمُلمات، ويا أصحاب الأمراض والكربات، ويا كل مؤمن ومسلم: هذه دعوة للتحلي بهذا الخلق العظيم، تأسياً بهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم.

تتعدد صنوف الأذى للإنسان في حياته، فتارة يتعرض لأذىً نفسي، وتارة لأذىً جسدي، وهكذا تختلف وتتنوع صنوف الأذى، وعند التعرض لسيرة قدوتنا عليه الصلاة والسلام نراه قد تعرض لجميع صنوف الأذى، فقد اتهمه المنافقون الأفاكون في عرضه وأحب نسائه إليه الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها فصبر واحتسب، حتى أنزل الله تبارك وتعالى في براءتها آيات تتلى إلى يوم القيامة.
 
واتهمه الكفار بأنه شاعر، وساحر، ومجنون، وما أشبه ذلك مما بينه القرآن الكريم؛ فصبر عليه الصلاة والسلام.
 
تكلم فيه بعض جهلة الأعراب، واتهموه زوراً وبهتاناً بالحيف والجور، وعدم العدل في القسمة؛ فصبر صلى الله عليه وسلم، ولم يزد على أن رد تلك الاتهامات بقوله: ((فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
 
يُقتل بعض قرابته كجعفر ابن عمه، وعمه حمزة؛ فيصبر عليه الصلاة والسلام.
 
يُعذَّب من أصحابه عمار وأمه ووالده ياسر عذاباً شديداً - لا لشيء سوى أنهم اتبعوا الحق الذي معه -، حين كان الكفار يخرجونهم إلى الأبطح في حر الرمضاء، ويعذبونهم بحرّها، فيمر بهم صلّى اللّه عليه وسلّم وهم يعذبون فيصبر، ويصبِّرهم ويقول: ((صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنّة)).
 
يشرد أصحابه، ويعذبون على مرأى ومسمع، حتى يأتي خباب بن الأرت رضي الله عنه يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنصر لهم، ويدعو على الكفار؛ فيصبر صلى الله عليه وسلم، ويحثُّ أصحابه على ذلك، ويضرب لهم الأمثلة في شدة العذاب الذي لاقاه اتباع الأنبياء من قبل، ويقسم صلى الله عليه وسلم لهم بأن الله تبارك وتعالى سيظهر هذا الدين، وأنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، ويُبِرُّ  الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قسمه، ويظهر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون.

ويجاهد في سبيل الله فيصبر على ما يصيبه وأصحابه وأتباعه من كربات، فقد قتل يوم أحد سبعون من أصحابه منهم عمه حمزة وصاحبه وسفيره مصعب بن عمير، ويَغدر الكفار برسله القراء وطلابه النجباء البالغ عددهم سبعون فيقتلون في وقعة واحدة؛ فيصبر عليه الصلاة والسلام.

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لقد أُخِفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد))، ومع ذلك يصبر عليه الصلاة والسلام.
 
ولم يكن صبره مقتصراً على أذى الكفار القولي فحسب؛ بل تعدى إلى الصبر على الأذى الحسي أيضاً، فبينما هو يصلي عند البيت، وزمرة من الكفار على رأسهم أبو جهل جلوس، إذ قام أشقى القوم "عقبة بن أبي معيط" فأخذ سلا جزور قد نحرت من اليوم الأول، فوضعه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فضحك القوم حتى مال بعضهم على بعض، واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في سجوده وصبره، حتى جاءت ابنته فاطمة رضي الله عنها وأزالت الأذى عنه عليه الصلاة والسلام.
 
ومن الأذى أيضاً ما فعله عقبة بن أبي معيط - عليه لعائن الله - حين أراد تصفية النبي صلى الله وعليه وسلم بخنقه وقتله، وما دفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر رضي الله عنه؛ قائلاً: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم صابر محتسب.
 
وما بدر وأحد، والأحزاب وتبوك، وحنين وغيرها من غزواته وسراياه؛ إلا صفحات مضيئة من صبره وجهاده صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن يخرج من غزوة إلا ويدخل في أخرى، ويصبر على كل ما يحدث له في تلك الغزوات، ففي أحد كُسرت رباعيته، وشُجَّ رأسه، وسال الدم عن وجهه عليه الصلاة والسلام، فجعل يمسح الدم عنه، ويقول: ((كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رَبَاعِيَتَه، وهو يدعوهم إلى الله؟!))  
 
وثمة موقف أشد من ذلك كله، إنه ذلك الموقف الرهيب الذي لقيه عليه الصلاة والسلام يوم العقبة؛ حين خرج إلى الطائف يدعو أهلها إلى الله، وترك عبادة ما سواه، فآذوه، وألَّبوا عليه صبيانهم وسفهاءهم، وتسأل عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟" قال: ((لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب!!)) يا لله ما هذا الموقف الرهيب، والحدث المؤلم الذي جعله صلى الله عليه وسلم يهيم ويسرح بتفكيره حتى لم يشعر بنفسه إلا بعد عشرات الأميال!.

ومع كل ما سبق من صنوف الأذى الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف؛ إلا أنه لما أتاه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق على المكذبين به الأخشبين (جبلان بمكة) قال عليه الصلاة والسلام: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)).

تعرض نبينا عليه الصلاة والسلام لأنواع كثيرة من الابتلاءات، وعاش صابراً محتسباً صلى الله عليه وسلم، فقد صبر على قلة ذات اليد، وشظف العيش، حتى كانت تمرُّ عليه وعلى أهله ثلاثة أهلة وما يوقد في بيوته صلى الله عليه وسلم نار.

صبر عليه الصلاة والسلام على خشونة العيش، وشدة الجوع، فربط على بطنه حجرين، وكان صوته يضعف من شدة جوعه، ويشهد لذلك ما جاء في قصة أبي طلحة مع أم سليم وقوله لها: "لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟" قالت: "نعم"، ثم أخرجت أقراصاً من شعير ثم أدخلتها في خمار لها، ثم أرسلت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
 ينام صلى الله عليه وسلم على الحصير حتى أثَّر في جنبه، فيراه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على تلك الحال فيبكي! فيقول له صلى الله عليه وسلم: ((ما يبكيك يا ابن الخطاب؟)) فيقول: يا نبي الله ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته! وهذه خزانتك؟، فيحلق صلى الله عليه وسلم في معاني الإيمان والأمل بما عند الله والدار الآخرة قائلاً:  ((يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة، ولهم الدنيا!)).
 
ولم يكن صبر النبي صلى الله عليه وسلم مقتصراً على الأذى والابتلاء والكرب، بل شمل صبره الصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى حين أمره ربّه بذلك فقال: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وقال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا، فكان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة والطاعة حتى تتفطّر قدماه من طول القيام،  ولا ينفك عن القيام بطاعة أو قربة لله عز وجل، شعاره في ذلك كله: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟)).

لقد كانت وقائع سيرته صلى الله عليه وسلم مدرسة للصابرين، يستلهمون منها حلاوة الصبر، وبرد اليقين، ولذة الابتلاء في سبيل رب العالمين.

3 + 7 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.